كيف ولماذا تُذهب الترجمة عظمة القرآن واعجازه ادراج الرياح؟
القرآن كلام ولكنه ليس كلام بشر بل هو كلام خالق البشر.
القرآن نزل بلسان عربي مبين لكنه ليس بالشعر أو النثر.
لا يشبه نص القرآن أي نص عرفه العرب قديما أو حديثا مقروءا كان او مكتوبا.
القرآن له تأثير لا يُضَاهى على بني البشر فهو ذكر للعالمين عامة ورحمة وشفاء ونور للمؤمنين خاصة.
وتتكون نصوص القرآن من الآيات بينما تتكون سائر نصوص الكتب البشرية كلها من الجمل واشباه الجمل.
إذا كانت تلك من المسلمات التي نؤمن بها فلا بد إذا من وقفة ضرورية مع ما يسمى بترجمة القرآن لكي نتبين بالدليل والبرهان أن الترجمات لا يمكنها أن تخدم الغاية من انزال القرآن بل تشكل الحائل والعائق للوصول إلى تلك الغاية مما يجعل منها مسخا يجب تجنبه. ولكي نعرف الى أي حد تفسد الترجمة من مقام القرآن اقدم للقارئ هنا ما قاله احد العلماء المختصين واسمه توماس كارليل (Thomas Carlyle) في تقيم ترجمة للقرآن قام بها جورج سيل (George Sale) الذي عاش في القرن السابع عشر
يقول توماس:
“لقد كانت تلك الترجمة (ترجمة سيل للقرآن) حقا قراءة مضنية وشاقة بطريقة لم اعهدها أبداً في أي قراءة أخرى من قبل. انها عبارة عن خليط ممل وساذج يفتقر إلى المعالجة اللغوية وهي أيضاً رديئة التركيب والبنية وتحتوي على ترجمة للحروف لا لزوم لها وفيها حشو وتعقيد وفظاظة وفجاجة وجفاف وغباء لا يمكن تحمله. وخلاصة القولا انه لا يوجد شيء يعين القارئ الأوربي ويحمله على إتمام قراءة تلك الترجمة سوى شعوره بالذنب إن هو لم يتم ما ألزم به نفسه” (انظر المراجع الاعجمية رقم 1)
والحقيقة ان كل من له باع وعلم في ترجمات القرآن يعرف يقينا ان تلك النعوت ليست حصرا على ترجمة سيل بل هي تنطبق على جميع ترجمات القرآن المتوفرة لدينا الآن باللغة الإنجليزية. فليس هناك فروق جذرية فيما بينها بحيث تظن ان كل واحدة هي اخت الأخرى. لذلك كان من الضروري الابتعاد عن ترجمة القرآن وتبني الطريقة الصحيحة التي تظهر بها عظمة القرآن واعجازه. في هذه الدراسة القصيرة سوف أعرض بالتفصيل الأسباب التي تجعل من الترجمة غير صالحة للقرآن مع إعطاء الدليل النقلي والعقلي ثم أقدم الطريقة المثلى لفهم القرآن والتي تليق بمقامه العظيم. ونبدأ باسم الله بعرض الغاية من انزال القرآن وتعريف الترجمة العلمي.
الغاية من إنزال القرآن
جعل الله للقرآن غايات كثيرة جمة تتوافق مع عظمته وجلاله وهذه الغايات لها صلة وثيقة بالإنسان بحيث لا يمكنه العيش أبدا في هذه الحياة الدنيا حياة صحية متوازنة ولا يمكنه كذلك الفوز بالجنة بعد مماته بدونها. فالقرآن كتاب ذكر وذكرى ورحمة وشفاء وموعظة وهدى وعلم وحكمة. والترجمة بحسب تعريفها العلمي لا يمكنها ان تخدم أي من تلك الغايات ناهيك عن كلها.
تعريف الترجمة:
الترجمة هي عملية نقل كيان لغوي سواء كان مكتوبا أو منطوقا من لغة ما إلى يعادلها في لغة أخرى وذلك بإيجاد المرادف لها في اللغة المنقول اليها بدون تدخل من المترجم بالنص الاصلي فلا يسمح له بالإستنباط أو إبداء رأي او إضافة أو حذف وذلك من أجل ان تُحدث الترجمة في المُتلقي نفس الأثر الذي يُحدثه النص الاصلي. فمثلا لو كان الهدف من النص الأصلي هو إثارة حفيظة الضحك أو الحزن في المتلقي أو تحذيره من خطر محدق فلابد أن تُحدث ترجمة ذلك النص نفس تلك الحفيظة.
اعتمادا على التعريف أعلاه لا تصلح الترجمة للقرآن للأسباب التالية: أولها انه لا يوجد هناك مرادفات لكلام الله في أي لغة من اللغات فكلام الله يسمى آيات بينما يسمى كلام البشر بالجمل واشباه الجمل. والآية في اللغة تعني “الشيء العجيب” وقد وصف الله القرآن بالقول الثقيل لأنه كتاب لا تنقضي عجائبه ولا تتناهى غرائبه. وهكذا فإنك إن اردت ان تعرف عظم الحدث فانسبه إلى فاعله.
والدليل على ذلك عقلا هو آيات الحروف المقطعة في القرآن والتي تريد ان تلفتنا إلى قائل القرآن وكيف انه لا يصح ان نفصل القرآن عن قائله البتة. فمثلا ما هو الفرق بين قول الحرف ص في سياق القرآن عند قراءة سورة ص وبين قول ص في سياق تعليم اللغة العربية في المدرسة؟ الجواب هو ان الفرق شاسع وكبير لدرجة لا نستطيع أن نحدد مقداره. فالصاد في الاولى تسمى آية فيها ما فيها من الاسرار والعجائب ويؤجر عليها القارئ أو السامع أجرا مضاعفا. وهي تحرك قلب القارئ وتدفعه إلى الإنفعال العاطفي والاستجابة العملية. بينما تعتبر الصاد في الثانية مجرد حرف مبنى ليس له معنى إلا أنه يرمز إلى صوت معين من أصوات حروف اللغة العربية ولا يُحرك في المتعلم قيد أنملة ولا يدفعه الى فعل شيء او تركه.
و سبب آخر يجعل من الترجمة غير صالحة للقرآن هو ان الترجمة لا يمكنها ان تُحدث في المتلقي نفس تأثير القرآن على القارئ او السامع بل تفعل العكس تماما بحيث تسلب الترجمة النص القرآني تأثيره من الذكر والذكرى والشفاء والرحمة ليصبح كتابا هامدا لا حياة فيه ولا حراك. فتأثير القرآن على النفس البشرية لا دخل له بفهم النص اللغوي بل بالإيمان والتطبيق.
والدليل نقلا على ذلك هو هذه الآية
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قرآنا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آياتهُ ۖ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ۗ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ ۖ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذانهمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ۚ أولَٰئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَان بَعِيدٍ
وهكذا فعندما يكون القارئ أو السامع للقرآن مؤمنا مطبقا لدينه بغض النظر عن مدى فهمه للنص القرآني يصبح له القرآن “رحمة” تقيه من الشرور والآثام الظاهرة والباطنة و”شفاء” يداوي له العلل الجسدية والنفسية ويبعث على السكينة والطمأنينة و”نور” يضيء له الطريق و”هدى” يقود الى الطريق الحق ويبدد جميع الظلمات عند اختلاط الطرق.
اما الدليل العقلي على ان تأثير القرآن يصل الى الانسان بدون فهم لغوي للنص القرآني فهو ان الله قد جعل القرآن من نفس مادة خلق الانسان. فالإنسان لم يُخلق من مادة الطين فقط بل من غير المادة وهي الروح ومن كلمة كن. والقرآن كما نعرف كلام الله الذي سماه روحا. اذا فالقرآن بصفته روح وكلام الله لديه إمكانية التآلف والاندماج مع روح الانسان بحيث يقوم بتعزيزها وتحفيزها تماما كما يعزز الطعام المادي من مادة الطين التي خُلق منها الانسان. فما الطعام المادي الا عبارة عن مزيج من العناصر الموجودة أصلا في تكوين الانسان. وكما ان للطعام المادي نفس التأثير على البشر بغض النظر عن جنسهم وعن لغتهم كان للقرآن نفس التأثير الروحي عليهم كذلك .
لكن من رحمة الله بخلقه انه لم يحرم غير المؤمنين من كرمه فقد جعل للقرآن تأثيرا عاما يستوي فيه المؤمن وغير المؤمن وهو تأثير الذكر فقد جعل الله القرآن ذكر وذكرى للعالمين. ومعنى الذكر هو الاعلام والتنبيه والاستحضار والاسترجاع والذي هو من عمل الذاكرة. فالقرآن يحفز ذاكرة الانسان ويعززها مما ينتج عنه شعور الهدوء والسكينة والطمأنينة. اذا القرآن ينبه الناس ويلفتهم اليه عربا كانوا او عجما بسبب خاصية الذكر العامة هذه مما قد يدفع الكافر او المنكر الى التفكر في القرآن والبحث عن مصدر هذا التأثير عليه فيقوده ذلك الى الايمان بالله واتباع الإسلام.
وهنا قد يقول قائل هل يعني ذلك اننا لسنا بحاجة الى فهم القرآن اللغوي؟ الجواب بالطبع نحن في أمس الحاجة الى فهم القرآن وسبر أغواره لان للقرآن غاية نحتاج فيها الى فهم نصه اللغوي ان أردنا تحصيلها الا وهي إستنباط الأحكام والقوانين لندير بها حركة الحياة وايضا من أجل استكشاف عجائبه التي لاتنقطع والتي تزيد المؤمن ايمانا على ايمانه وتورث الخشية من الله. ولكن لا يمكن تحصيل تلك الغاية عن طريق معرفة معاني كلمات القرآن بل عن طريق طلب العلم وشتان بين الطريقتين.
فطلب علم القرآن الذي يؤهل الشخص المسلم الى استنباط الاحكام والقوانين من القرآن يأخذ من الشخص معظم وقته ان لم يكن كله. لذلك لا يسع جميع المسلمين الانشغال بهذا العلم لان آيات القرآن مثل آيات الكون المحسوسة كالشمس والقمر والنجوم تحتاج دراستها الى تفرغ وقابلية وملكة. لذلك فان العلماء المتخصصون يضحون باوقاتهم فيكدون ويجتهدون ويتعبون ليقدموا لنا نتاج جهدهم وتعبهم على طبق من ذهب. فلا يقلل من شأن المسلم ان لم يكن من هؤلاء العلماء ما دام يطلب العلم من أهله المعتمدين عند الحاجة اليه. قال تعالى:
“ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ“
فان قال قائل إن ترجمات القرآن هي فقط ترجمة معاني كلمات القرآن ولا ضرر منها مثلها مثل القواميس. فنقول له: اولا من قال ان المسلم غير الناطق بالعربية بحاجة الى معرفة معاني كلمات القرآن؟ وهل هناك نص او دليل شرعي يدفعنا الى مثل هذا الفعل؟ ايضا ماذا جنى الشخص العربي او الناطق بالعربية من معرفة معاني كلمات القرآن؟ هل اكتمل بذلك دينه وأصبح من علماء زمانه؟ لو كان الجواب بالايجاب لكان حريا بكل من نطق العربية ان يكون من اشد الناس ايمانا وتمسكا بالقرآن وهذا ما لا نجده على أرض الواقع. فأهل العربية انفسهم ان ارادوا فهما شافيا للقرآن لايسعهم الا ان يبحثوا عن عالم جليل ليفسر لهم القرآن لان فهمهم لمعاني كلمات القرآن السطحي لم ولن يغنيهم عن علماء التفسير. اذا الاحرى بكل من أراد فهم القرآن من غير الناطقين بالعربية ان لا يعتمد البتة على ترجمة معاني القرآن وانما يجب عليه ان يبحث عن فهم القرآن على طريق فهم علماء المسلمين فقط لا من غيرهم. فالفرق شاسع بين أهل التفسير وبين المترجمين اللغوين.
فأهل التفسير المعتمدين أشخاص مسلمين مؤمنين بالله عاملين بدينه علماء أجلاء يشهد لهم أقرانهم ومعاصريهم وعلمهم بالتقوى والورع والصلاح والعلم الغزير وليس لهم من مقصد من تفسير القرآن إلا إظهار عظمته وجلاله أو لإستنباط الأحكام والقوانين. لذلك لن تجد تفسيرا معتمدا باللغة العربية إجتمع عليه المسلمون وأقروه قد قام به كافر أو مشرك أو شخصا من أصحاب الميولات السياسية المارقة أو من الفرق الدينية الضالة والمبتدعة.
بينما إذا نظرت إلى العاملين على ترجمات القرآن باللغة الإنجليزية فسوف تجد ان من قام بها قد يكون من الكفار او قد يكون مسلما نكرة غير عالم او متملق او مسلم من اتباع الفرق الضالة. وجميع هؤلاء لهم هدف دنيوي خاص بهم. فمنهم من يجري وراء المنفعة المادية فيبيع ترجمته ومنهم من يسعى إلى تعزيز موقفه الديني المبتدع أو السياسي أو المهني ومنهم من يسعى إلى ارضاء اسياده اللذين جندوه لمحاربة الدين. فعلم الترجمة كغيره من علوم الدنيا غير منضبط من ناحية المنخرطين فيه بمعنى أنه يسمح لأي شخص مهما كانت ميوله واعتقاداته وسلوكه واخلاقه بإلانخراط به. وهناك كتاب بهذا الصدد باللغة إلانجليزية لمن اراد إلاستزادة (انظر المراجع الاعجمية رقم 2). وهذه المرونة في السماح لأي شخص بالانخراط في الترجمة هي أحد الأسباب التي تجعل من الترجمة عير صالحة للقرآن.
جاء في الأثر:
“ان هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم”
الخاتمة
خلاصة القول ان الطريق الأوحد لعرض القرآن لغير الناطقين بالعربية سواء كانوا مسلمين او غير مسلمين لايكون بإعطائه ترجمة القرآن أو تفهيمه معاني كلمات القرآن بل عن طريق تقديم القرآن كما انزله الله لكي يسمعه أو أن يتعلم قراءته أو كليهما معا وذلك كي يتذوق قلبه القرآن ويشعر بتأثيره الاعجازي عليه فيستنهض بذلك الفطرة التى أودعها الله في كل انسان ويحفزها.
وعندما يستشعر الشخص القرآن ويقر بتأثيره عليه فسوف يطلب المزيد بدون شك خاصة إن علم أن للقرآن ثمرات ومحسات اخرى خاصة بالمؤمنين فقط الذين يطبقون تعاليمه فإن اصبح مؤمنا حقا وطبق شعائر الدين فسيشعر بتلك المشاعر وبعد ذلك فقط يستطيع إن اراد أن يبدأ أجمل رحلة يمكن ان يقوم بها الانسان المؤمن ألا وهي رحلة إستكشاف القرآن واكتشاف الدرر والجواهر التي فيه فيزيده ذلك خشية لله ويزيده ذلك إيمانا على إيمانه الأول وهذا لا يتأتّى إلا عن طريق فهم القرآن على فهم الخبراء والمتخصصين من علماء المسلمين الأجلاء المعتمدين من أمثال الشيخ الشعراوي رحمه الله. ثم بعد ذلك ان أصبح من أهل العلم يستطيع ان يزيد على تلك التفاسير ويضيف اليها ويثريها. ولا يسعني الا ان اقتبس بعض من كلمات الشيخ الشعراوي عن ماهية الطريقة الصحيحة في التعامل مع القرآن والتي بها فقط تتجلى عظمه القرآن والتي هي من عظمة من أنزله. يقول هذا لعالم الجليل في تفسير سورة هود:
“وجاء الحق- سبحانه- أيضا بالتدبر، أي :ألا يأخذ الإنسان الأمور بظواهرها، أو أن ينخدع بتلك الظواهر بل لا بد من البحث في حقائق الأشياء.
لذلك يقول الحق جل وعلا “أفلا يتدبرون القرآن” أي أفلا يبحثون عن الكنوز الموجودة في المعطيات الخلفية للقرآن.
والتدبر هو الذي يكشف المعاني الخفية خلف ظواهر الآيات، والناس يتفاضلون في تعرضهم لأسرار كتاب الله حين ينظرون خلف ظواهر المعاني.
ولذلك نجد عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول : ” ثوروا القرآن ” أي :قلبوا معاني الآيات لتجدوا ما فيها من كنوز، ولا تأخذوا الآيات بظواهرها، فعجائب القرآن لا تنقضي” انتهى قول الشيخ الشعراوي.
حقا كتاب لا تنقضي عجائبه ولا تتناهى غرائبه لا يصلح له الا التفسير لان علم التفسير يسمح لنا بالاستنباط والفهم الشخصي مع تقديم البرهان والدليل. اما بالنسبة الى ترجمة تفسير القرآن (وليس ترجمة القرآن) فهي بلا شك من العلوم التي تساعد إخواننا غير الناطقين بالعربية على فهم القرآن وزيادة ايمانهم كما يساعد تفسير القرآن الناطقين بالعربية على نفس الشيئ.
وفي الختام أود ان أقدم للقارئ ترجمة كنت قد قمت بها من وحي خواطر العالم المسلم الجليل الشيخ الشعراوي رحمه الله رحمة واسعة عن فهم آيتين من سورة يس رقم 69-70 لكي يتسنى للقارئ المقارنة بين ترجمات القرآن المتوفرة وبين ترجمة فهم وتفسير القرآن عن العلماء المعتمدين وسوف تجد هذه الترجمة في صفحة الواجهة لهذا الموقع.
المراجع
المراجع العربية
1. القرآن الكريم
2. مراجع الحديث
3. تفسير القرآن للشعراوي سورة الانفال 13-27 وسورة يس الاية 69-70 وسورة هود
المراجع الإعجمية
1. On Heroes, Hero-Worship, and the Heroic in History by Thomas Carlyle (page 67).
2. Translating the Untranslatable: A Critical Guide to 60 English Translations of the Quran by Abdur Raheem Kidwai.